فصل: المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إذَا مَاتَ عَلَيْهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال سرى السقطي لو أن إنسانا دخل بستانا فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الطيور فخاطبه كل طير منها بلغة فقال السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيرا في يديها فهذه الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين وقال أبو سليمان الداراني سمعت من بعض الأمراء شيئا فأردت أن أنكره فخفت أن يأمر بقتلي ولم أخف من الموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت.
وهذا من النفاق الذي يضاد حقيقة الإيمان وصدقه وكماله وصفاءه لا أصله.
فالنفاق نفاقان أحدهما يخرج من الدين ويلحق بالكافرين ويسلك في زمرة المخلدين في النار.
والثاني يفضي بصاحبه إلى النار مدة أو ينقص من درجات عليين ويحط من رتبة الصديقين وذلك مشكوك فيه ولذلك حسن الاستثناء فيه.
وأصل هذا النفاق تفاوت بين السر والعلانية والأمن من مكر الله والعجب وأمور أخر لا يخلو عنها إلا الصديقون.
الوجه الرابع وهو أيضا مستند إلى الشك وذلك من خوف الخاتمة فإنه لا يدري أيسلم له الإيمان عند الموت أم لا فإن ختم له بالكفر حبط عمله السابق لأنه موقوف على سلامة الآخر ولو سئل الصائم ضحوة النهار عن صحة صومه فقال أنا صائم قطعا فلو أفطر في أثناء نهاره بعد ذلك لتبين كذبه إذ كانت الصحة موقوفة على التمام إلى غروب الشمس من آخر النهار.
وكما أن النهار ميقات تمام الصوم فالعمر ميقات تمام صحة الإيمان ووصفه بالصحة قبل آخره بناء على الاستصحاب وهو مشكوك فيه والعاقبة مخوفة ولهذا كان بكاء أكثر الخائفين لأجل أنها ثمرة القضية السابقة والمشيئة الأزلية التي لا تظهر إلا بظهور المقضي به ولا مطلع عليه لأحد من البشر فخوف الخاتمة كخوف السابقة وربما يظهر في الحال ما سبقت الكلمة بنقيضه فمن الذي يدري أنه من الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل في معنى قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق} أي بالسابقة يعني أظهرتها.
وقال بعض السلف إنما يوزن من الأعمال خواتيمها.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه.
وقيل من الذنوب ذنوب عقوبتها سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك.
وقيل هي عقوبات دعوى الولاية والكرامة بالافتراء.
وقال بعض العارفين لو عرضت على الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد.
عند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار وقال بعضهم لو عرفت واحدا بالتوحيد خمسين سنة ثم حال بيني وبينه سارية ومات لم أحكم أنه مات على التوحيد.
وفي الحديث من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل وقيل في قوله تعالى: {وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا} صدقا لمن مات على الإيمان وعدلا لمن مات على الشرك وقد قال تعالى: {ولله عاقبة الأمور} فمهما كان الشك بهذه المثابة كان الاستثناء واجبا لأن الإيمان عبارة عما يفيد الجنة كما أن الصوم عبارة عما يبرئ الذمة.
وما فسد قبل الغروب لا يبرئ الذمة فيخرج عن كونه صوما فكذلك الإيمان بل لا يبعد أن يسأل عن الصوم الماضي الذي لا يشك فيه بعد الفراغ منه فيقال أصمت بالأمس فيقول نعم إن شاء الله تعالى إذ الصوم الحقيقي هو المقبول والمقبول غائب عنه لا يطلع عليه إلا الله تعالى فمن هذا حسن الاستثناء في جميع أعمال البر ويكون ذلك شكا في القبول إذ يمنع من القبول بعد جريان ظاهر شروط الصحة أسباب خفيفة لا يطلع عليها إلا رب الأرباب جل جلاله فيحسن الشك فيه.
فهذه وجوه حسن الاستثناء في الجواب عن الإيمان. اهـ.

.قال تقي الدين السبكي:

فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ وَقَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَسْأَلَةِ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَرَّ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ قَوْله تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَسَّرَ لَنَا الْعِلْمَ وَأَعَانَنَا عَلَيْهِ، وَنَصَرَنَا بِطَرِيقِ الْهُدَى وَأَرْشَدَنَا إلَيْهِ.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي حَصَّلَ لَنَا كُلَّ خَيْرٍ مِنْ فَيْضِ يَدَيْهِ؛ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
وَبَعْدُ فَقَدْ عَلِمْت مَا ذَكَرْته وَفَّقَكَ اللَّهُ مِنْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَكَلَّمُوا فِي مَسْأَلَةِ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالُوا إنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُكَفِّرُونَ بِذَلِكَ.
وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْخِلَافِ مَا يُفْضِي إلَى تَكْفِيرٍ وَلَا تَبْدِيعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي الْفُرُوعِ فَإِنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَالْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ إنَّمَا يَجْرِي فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهَا إلَى أَمْرٍ لَفْظِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كُفْرٌ وَلَا بِدْعَةٌ.
نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
فَلَمَّا بَلَغَنِي مَقَالَتَهُ تَأَلَّمْت لِذَلِكَ وَاسْتَهْجَنْت قَوْلَ قَائِلِهِ وَعَذَرْته بَعْضَ الْعُذْرِ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى خَلْفَ شَاكٍّ فِي إيمَانِهِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ هَذَا الْكَلَامَ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِقَائِلِهِ إنَّمَا صَدَرَ مِنْ مُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ إذَا حَقَّقَ الْبَحْثَ مَعَهُمْ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ لَفْظِيٍّ، وَمَا أَرَادُوهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِمَّنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ.
وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أَرَادُوهُ بِهِ.
وَأَئِمَّتُهُمْ الْمُتَقَدِّمُونَ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ ذَلِكَ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ إنْكَارُ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مِثْلُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَكَيْفَ يَقُولُ ذَلِكَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِهِ وَشَيْخُ شَيْخِ شَيْخِ شَيْخِهِ قَدْ اُشْتُهِرَ عَنْهُ ذَلِكَ.
وَلَقَدْ كَانَ أَوَّلُ مَا عَلِمْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَنَا صَبِيٌّ، رُبَّمَا كَانَ عُمْرِي عَشْرَ سِنِينَ، رَأَيْتهَا فِي كِتَابِ الْمَعَالِمِ لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ بْنِ الْخَطِيبِ مَنْسُوبَةً إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اطَّلَعْت عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْكُلَّابِيَّةُ.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَكَانَ صَاحِبُهُ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيَّ مُقِيمًا فِي عَسْقَلَانَ فَشُهِرَ ذَلِكَ فِي الشَّامِ عَنْهُ وَأَخَذَهُ عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ، فَزَادَ أَصْحَابُهُ الْمَشْهُورُونَ الْيَوْمَ بِالْمَرَازِقَةِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالٌ، أَعْنِي مَا زَادُوهُ.
وَأَمَّا الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ صَحِيحٌ وَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ وَيَمْنَعُ الْقَطْعَ بِقَوْلِهِ أَنَا مُؤْمِنٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ وَيُوجِبُ الْقَطْعَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوِيلٌ يَحْتَاجُ إلَى مَوَادَّ كَثِيرَةٍ، وَقَوَاعِدَ مُنْتَشِرَةٍ، وَقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَفِكْرٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمُخَاطَبَةِ مَنْ يَفْهَمُ عَنْك مَا تَقُولُ، وَيُعَانِي مِثْلَ مَا تُعَانِيهِ فِي الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَارْتِيَاضٍ فِي الْعُلُومِ وَاعْتِدَالٍ فِي الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ، وَطَبِيعَةٍ وَقَّادَةٍ وَقَرِيحَةٍ مُنْقَادَةٍ، وَتَجَرُّدٍ فِي عِلْمِ الطَّرِيقِ وَالسُّلُوكِ، وَتَقْوَى وَتَذَكُّرٍ إذَا عَرَضَ مَسٌّ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَصْبِرُ مَا تَنْزَاحُ بِهِ عَنْهُ الشُّكُوكُ وَقَدْ يَأْتِي فِي مَبَاحِثِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا أَضْمَنُ بِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ لِقِلَّةِ مَنْ يَفْهَمُهُ أَوْ يَسْلَمُ فِي الْمُعْتَقَدِ، لَكِنِّي أَرْجُوهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُوَفِّقَك لِفَهْمِهِ وَيَعْصِمَكَ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَدٌ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسْتَمَدُّ مِنْ مَسَائِلَ إحْدَاهَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْإِيمَانِ وَقَدْ صَنَّفْت فِيهِ مُجَلَّدَاتٍ وَيَكْفِي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وَذَكَرَ اللُّغَوِيُّونَ قَوْلَيْنِ فِي أَنْ تُؤْمِنَ وَمَعْنَى الْإِيمَانِ.
أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنْ تُصَدِّقَ.
وَالْبَاءُ لِلتَّعَدِّيَةِ.
فَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ.
وَالثَّانِي أَنْ تُؤَمِّنَ نَفْسَك مِنْ الْعَذَابِ.
وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ السَّبَبِيَّةِ.
فَالْإِيمَانُ جَعْلُ النَّفْسَ آمِنَةً بِسَبَبِ اعْتِقَادِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَظْهَرُ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ.
لِأَنَّ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَشْرُوطٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ بِلَا إشْكَالٍ.
وَتَخْرِيجُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا وَإِنَّمَا ذَكَرْته وَهَذَا الْقَوْلُ فِي اللُّغَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأَكْثَرُونَ.
وَلَكِنَّ الْوَاحِدِيَّ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ.
وَنَاهِيك بِهِ فَفَرَّعْت أَنَا عَلَيْهِ هَذَا الْجَوَابَ.
.....................

.المسألة الثَّانِيَةُ: هَلْ الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَوْ خَارِجَةٌ عَنْهُ؟

ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْهُ.
وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ السَّلَفِ دُخُولُ الْأَعْمَالِ وَهَا هُنَا احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا أَنْ تَجْعَلَ الْأَعْمَالَ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِهِ دُخُولَ الْأَجْزَاءِ الْمُقَوَّمَةِ حَتَّى يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا عَدَمُهُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ السَّلَفُ؛ بَلْ قَالُوا خِلَافَهُ، وَالثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَ أَجْزَاءً دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِهِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا عَدَمُهُ، فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الذَّاتِ كَالشَّعْرِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لِلْإِنْسَانِ وَالْأَغْصَانِ لِلشَّجَرَةِ.
فَاسْمُ الشَّجَرَةِ صَادِقٌ عَلَى الْأَصْلِ وَحْدَهُ.
وَعَلَيْهِ مَعَ الْأَغْصَانِ وَلَا يَزُولُ بِزَوَالِ الْأَغْصَانِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ لَهُ كَلَامُ السَّلَفِ.
وَقَوْلُهُمْ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَلَمْ يَجْتَمِعْ هَذَانِ الْكَلَامَانِ إلَّا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَمِنْ هُنَا قَالَ النَّاسُ شُعَبُ الْإِيمَانِ جَعَلُوا الْأَعْمَالَ لِلْإِيمَانِ كَالشُّعَبِ لِلشَّجَرَةِ.
وَقَدْ مَثَّلَ اللَّهُ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ وَهُوَ أَصْدَقُ شَاهِدٍ لِذَلِكَ، الثَّالِثُ أَنْ تَجْعَلَ الْآثَارَ آثَارًا خَارِجَةً عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنَّهَا مِنْهُ وَبِسَبَبِهِ.
وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا فَبِالْمَجَازِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ.
وَهُوَ قَرِيبٌ لَكِنَّ الَّذِي قَبْلَهُ أَقْرَبُ إلَى كَلَامِ السَّلَفِ وَظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، الرَّابِعُ.
أَنْ يُقَالَ أَنَّهَا خَارِجَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ لَا تُطْلَقُ عَلَيْهَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
وَهَذَا بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَالْمُخْتَارُ الْقَوْلُ الثَّانِي.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ مَوْضُوعٌ شَرْعًا لِلْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ.
وَالِاعْتِقَادِ وَحْدَهُ بِشَرْطِ الْقَوْلِ، فَإِذَا عُدِمَ الْعَمَلُ لَمْ يُعْدَمْ الْإِيمَانُ وَإِذَا عُدِمَ الْقَوْلُ لَمْ يُعْدَمْ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ عَدِمَ شَرْطُهُ فَيُعْدَمُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ.
وَإِذَا عُدِمَ الِاعْتِقَادُ عُدِمَ الْجَمِيعُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِذَا قُلْنَا: الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَانَ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ غَيْرُ حَازِمٍ بِكَمَالِ الْأَعْمَالِ عِنْدَهُ، وَبِهَذَا يُشْعِرُ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَنَّهُمْ إذَا اسْتَثْنُوا فَإِنَّمَا اسْتَثْنُوا لِذَلِكَ؛ لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَحَدَ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْأَعْمَالِ، وَقَدْ قُلْنَا إنَّهُ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَعَلَيْهِ يَلْزَمُ أَنَّ مَنْ فَقَدَ الْأَعْمَالَ يُجْزَمُ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّ الْإِيمَانَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الْقَلِيلِ وَهُوَ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ وَالْكَثِيرِ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَلَهَا مَرَاتِبُ أَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَمُؤْمِنٌ اسْمُ فَاعِلٍ مُشْتَقٌّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُجُودُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِيمَانِ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ فَيَصِحُّ، وَأَمَّا أَصْلُ الْإِيمَانِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ السَّلَفَ إنَّمَا اسْتَثْنُوا لِاعْتِقَادِهِمْ دُخُولَ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَالْوَجْهُ أَنْ يُضَافَ إلَى ذَلِكَ إطْلَاقُ قَوْلِهِمْ أَنَا مُؤْمِنٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.
فَلِذَلِكَ اسْتَثْنُوا وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إذَا مَاتَ عَلَيْهِ:

فَمَنْ مَاتَ كَافِرًا لَمْ يَنْفَعْهُ إيمَانُهُ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَلْ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يَعْقُبَهُ كُفْرٌ أَوْ كَانَ إيمَانًا وَلَكِنْ بَطَلَ فِيمَا بَعْدُ لِطَرَيَانِ مَا يُحْبِطُهُ؛ أَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ إيمَانًا صَحِيحًا مَوْقُوفًا عَلَى الْخَاتِمَةِ؛ كَمَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى تَمَامِهَا لِأَنَّهُمَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ يَرْتَبِطُ أَوَّلُهَا بِآخِرِهَا، فَيَفْسُدُ أَوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا فَخَرَجَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ.
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ.
وَالثَّانِي ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ لَهُ حَيْثُ حَكَمَ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْبَطُ عَمَلُهُ إذَا مَاتَ كَافِرًا.
وَالثَّالِثُ اقْتَضَاهُ كَلَامُ بَعْضِهِمْ.
وَعَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَقْوَالِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِلْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ إمَّا فِي الْأَصْلِ.
وَإِمَّا فِي التَّدَيُّنِ، وَإِمَّا فِي النَّفْعِ وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِيهِ.
وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا حُصُولُ الشَّكِّ فِيهِ؛ وَيَرُدُّ مَا أَوْرَدَهُ الْمُخَالِفُ مِنْ التَّشْنِيعِ وَتَسْمِيَتِهِمْ الطَّائِفَةَ الْمَشِيئِيَّةَ بِالْمُتَشَكِّكَةِ لَكِنَّ هَذَا شَكٌّ لَا حِيلَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْخَاتِمَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ.
وَلَيْسَ شَكًّا فِي اعْتِقَادِهِ الْحَاصِلِ الْآنَ، نَعَمْ هُوَ شَكٌّ فِي كَوْنِهِ نَافِعًا وَصَحِيحًا وَيُسَمَّى عِنْدَ اللَّهِ إيمَانًا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ جَازِمًا بِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا فِي قُدْرَتِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَقْصِيرٍ وَلَا ارْتِيَابٍ عِنْدَهُ فِيهِ.